السودان

البروفيسور عبد الله النعيم لـ”راينو”:لا بديل لحوار يفضي لتأسيس مشروع وطني لصالح كل السودانيين

حوار: راينو(2-2)

ندد د. عبد الله احمد النعيم أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان بالجامعات الامريكية بتوصيف الدعم السريع بالـ “أجانب” والـ”مستوطنين الجدد”، وقال في حوار لـ”راينو”:(هي خطابات ظلت ترددها الصفوة المتسلطة في الوسط لتهميش أو زيادة تهميش قطاعات واسعة من السودانيين في مختلف أنحاء القطر وهي خطابات أرفضها ولا أتفق معها)، وتابع:(كل شخص نشأ وتربى ويعيش حاليا ضمن الحدود السودانية الجغرافية السياسية هو مواطن سوداني يستحق كامل حقوق المواطنة، وعليه كل واجباتها. فهذه الحدود أنشأها الاستعمار، وهناك قبائل مشتركة في كل الحدود السودانية، القبائل في دارفور على سبيل المثال، تتصل بتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، كما أن هناك قبائل سودانية لها امتدادات في أثيوبيا وإرتريا ومصر وغيرها.

اللامبالاة تجاه ردود فعل المجتمع الدولي يدل على قصور خطير في فهم طبيعة العلاقات الدولية

(*) فتحت الحرب أبوابًا واسعة للنقاش بين السودانيين والنخب الفكرية على وجه الخصوص، إلى أي مدى يسهم ذلك في بلورة وبناء مشروع وطني بجدول أعمال جديدة لصالح كل السودانيين؟

أعتقد أن هذا السؤال هو الاتجاه الإيجابي الصاعد، فلننظر لإيجابيات الحرب، لأن سلبياتها، واضحة، وظاهرة، ومفهومة. فما هي الإيجابيات؟ أنا أعتقد أن الحرب فتحت أبواب النقاش بين كل السودانيين والنخب الفكرية على وجه الخصوص. ورغم توجسي من الحديث عن الصفوة أو النخب الفكرية، لكن أظن أن الفكر الواعي المستنير والعلم بالتاريخ والعلوم الاجتماعية المختلفة، يعتبر ضروريًا لبناء القيادات وتشكلها على أسس سليمة. وبناءً على هذا الوعي يجب أن تتصل هذه النخب بقواعدها، ولا تكتفي بالانغلاق في حوار مع نخب أخرى. كل النخب السياسية والفكرية يجب أن تتجه لقواعدها بغرض التوعية والتنوير وترسيخ الفكر القائم على المساواة والمواطنة الكاملة للرجال والنساء والمسلمين وغير المسلمين. وهي عملية حوارية تفاعلية بين النخب فيما بينها من جانب، وبين النخب والقواعد من جانب آخر، يجب أن يدار حوار غير محدود، ليس رأسيًّا وأفقيًّا فحسب، وإنما رأسي مع رأسي وأفقي مع أفقي في الوقت نفسه. يجب أن يستمر الحوار في جميع الاتجاهات بغرض تأسيس شروط ومستلزمات مشروع وطني جديد لصالح كل السودانيين.

(*) كيف تنظر إلى تصريحات قادة الجيش وعدائهم للمجتمع الدولي من فولكر إلى “روتو” والإيقاد وغيرها؟

 من منظور التحليل الموضوعي العام، فمثل هذه التصريحات تدلل أولًا على جهل كبير بحقائق العلاقات الدولية في العالم المعاصر، بجانب ضعف الخيال في إدراك العواقب الوخيمة لذلك الجهل، مع احتمالات الغرض الأناني، والعنصرية، والانتهازية، والجبن، ومحاولة التهرب من المسؤولية. وفي الحد الأدنى، إن ادعاء عدم المبالاة بردود فعل المجتمع الدولي على تصرفات أو سلوك الحكومات تجاه المشاكل أو الصعوبات التي تعاني منها دولهم وشعوبهم إنما يدلل على قصور خطير في طبيعة العلاقات الدولية، وفهم وتقدير تداخل المصالح والتأثير المتبادل حتى بين أقوى الدول وأقدرها على تحمل تبعات سلوك حكوماتها. فليس هناك حكومة مسؤولة في أي مكان في العالم تملك الجهل أو الإهمال لتبعات سلوكها الداخلي وأثاره على المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية للدول الأخرى على المستوى الإقليمي والعالمي؛ وذلك لأن الدول الأخرى ستعمل فورًا وبصورة حاسمة على حماية مصالحها الحيوية ضد أي خطر من أي جهة أو مصدر. فإذا كانت الدولة المُهدّدة المصالح لا تملك القدرة على الرد المباشر ضد الدولة التي تهدد مصالحها، فإنها ستتعاون مع دول أخرى ومنظمات دولية وإقليمية لحماية مصالحها بأي صورة أو درجة تقدر عليها.

حرب أبريل لا علاقة لها بالكرامة كونها صفوية جهوية عنصرية اعتمدت خطاب الكراهية

(*) وإلى ماذا يعود ذلك أو ما هي الدوافع؟

فبجانب الجهل وسوء التقدير لحقائق العلاقات الدولية والقصور في إدراك العواقب الوخيمة لسلوك الحكومات، فإن دوافع تلك الحكومات في الاستهتار بعواقب سلوكها تتفاوت بين الغرض الأناني في الحفاظ على السلطة في بلادها، أو لمنافع الفساد المالي والاقتصادي لبعض قيادات الفئة الحاكمة، أو عنصرية تلك القيادات تجاه الدول والمجتمعات الأخرى، أو الانتهازية في استغلال حاجة الآخرين والجبن، أو محاولة التهرب من المسؤولية عن تصرفات الحكومة نفسها تجاه شعبها ومصالحه السياسية والأمنية أو الاقتصادية. كما يمكن أن تجمع دوافع الحكومة المستهترة بردود الفعل الدولية على سلوكها خليطًا من هذه العوامل والأسباب.  فمثلا ربما تُهمل  أو تُرفض ردود دول القرن الأفريقي ومنظمة الإيقاد لخليط من الاستخفاف بمقدرة تلك الدول والمنظمة في التأثير على مجريات الأحداث في السودان، مع قدر من العنصرية ضد الهوية الأفريقية لدول القرن الأفريقي ومنظمة الإيقاد؛ في مقابل الاعتبار الأكبر لموقف مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر لدعم وتمويل وتسليح تلك الدول لنظام الإنقاذ (المتواصل بعد سقوط البشير) في السودان، والمصالح الاقتصادية لقيادات ذلك النظام في تلك الدول وخدمته لمصالح تلك الدول خلال حرب اليمن، والتحيز العرقي للعنصر العربي في منطقة الشرق الأوسط. بجانب ذلك الخليط من الدوافع المحتملة، وبالإضافة للجهل وسوء التقدير لدور المجتمع الدولي فيما عدا الدول الغربية، فربما يميل قادة نظام الإنقاذ في السودان إلى رفض اعتبار وجهة نظر دول القرن الأفريقي ومنظمة الإيقاد لأنها تنتقد تصرفات نظام الإنقاذ في السودان، بينما تفضّل وجهة النظر العربية المؤيدة لتصرفات نظام الإنقاذ في السودان.

(*) إذاً انت ترفض هذه التصريحات؟

أنا أعارض تصريحات القادة الحالين للجيش وعدائهم للمجتمع الدولي لمعارضتي لجميع الأسباب المذكورة أعلاه. كما أعارض هذه التصريحات لإهمالها الكامل لمصالح السودان والسودانيين، بالإضافة لنفاقها وازدواجية معاييرها، ومن جميع الوجوه تنحصر هذه التصريحات في خدمة المصالح الأنانية الضيقة لنظام الإنقاذ وقادته، على حساب السودان وأهله. كما أرى أن السودان كدولة وشعب ليس له فكاك من المجتمع الدولي، ولا فرصة لنا في البقاء بدونه. نحن جزء من المجتمع الدولي، إذ نتعامل مع كل القضايا التي حولنا من خلال مؤسساته، سواء كانت أفريقية أو كوكبية على مستوى الأمم المتحدة أو غيرها.  وأرى الازدواجية والمراوغة في الاعتماد على مصر والإمارات والسعودية من جهة، ورفض التعاون مع الأمم المتحدة والإيقاد من جهة أخرى، مع أن كل هذا وذاك هو نفس المجتمع الدولي. الإيقاد، مثلا، هي مؤسسة أفريقية إقليمية، نحن طرف مؤسس فيها من عشرات السنين، ومنتفعين منها ولدينا حاجة لها، بالتالي يجب أن نجعل قضايانا حاضرة فيها كمؤسسة مؤثرة في قارتنا بدل الفكاك منها ومقاطعتها.

 إن معاداة المجتمع الدولي هي امتداد للفتنة والانتهازية والغطرسة التي عودتنا عليها قيادات نظام الإنقاذ. وأنا أرفض هذه السياسة لنفس الأسباب التي أرفض لها نظام الإنقاذ لأنه باطل من الناحية المفهومية، وفاسد ومُفسد من ناحية الممارسة العملية عبر أكثر من ثلاثة عقود من الزمان. وها هو الآن يتوج بطلانه وفساده بمعاداته للمجتمع الدولي الكوكبي. أنا لا أقول بأن نقبل كل ما يُقدم لنا باسم المجتمع الدولي، لأن هيئاته ومؤسساته أحيانا تستغل مواقعها لخدمة مصالح غير الغايات والأهداف المشروعة للمجتمع الدولي نفسه، لكن لا يعني ذلك رفض كل ما يأتي من المجتمع الدولي لمجرد الانتساب. فالإنسان لا يستطيع الاستغناء عن جاره المباشر أو الذي يعيش معه في نفس القطر أو القارة أو العالم ككل، والتعاون والاعتماد المتبادل في طبيعتنا جميعا كبشر، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها.

 

(*) ظلت قيادة الدعم السريع تتحدث عن أنها تخوض حربًا من أجل استعادة الديمقراطية، مقابل مبررات قيادة الجيش المتعلقة بالدفاع عن الدولة وحرب الكرامة. ما هو تقييمك لهذين الدافعين، وما علاقة كل منهما بالثورة والمواطنة والعدالة الاجتماعية؟

حقوق الإنسان مرتبطة بالسلوك الديمقراطي والأخلاقي للأفراد ولا بديل عن سيادتها في مجتمع ديمقراطي

إذا أخدنا هذه الدوافع على مستواها النظري أو التجريدي، فأنا أقف في صف الحرب من أجل الديمقراطية وضد الحرب بدعوى الدفاع عن الدولة أو الكرامة. فمثل هذه الدعاوى تثير عندي التساؤل: ما هي الدولة والكرامة التي يتم الدفاع عنها، ومن الذي يدفع الثمن؟ إذا كان الدفاع عن دولة كل السودانيين وكرامتهم جميعًا، فلا توجد دولة أو كرامة من دون الديمقراطية. كما أن الديمقراطية هي التي تضمن المسؤولية الجماعية والعادلة عن تكلفة الدفاع عن مبادئها ومؤسساتها. لذلك أنا أقف في صف من يحارب من أجل الديمقراطية. أما الحرب التي تكون من أجل الدفاع عن الدولة أو الكرامة غير الشاملة للجميع، فهي مجرد صفوية وجهوية عنصرية لا يمكن أن تؤسس للاستقرار والتنمية القومية. وقد أجمع الشعب السوداني في ديسمبر 2018م على رفضها، فنحن لم نؤسس حتى الآن دولة وكرامة المواطنة الشاملة التي تستحق أن ندافع عنها، والتي لا تكون إلا بواسطة الديمقراطية.

واختتم إجابتي على هذا السؤال بأن أقول، هل يحارب الدعم السريع فعلا من أجل الديمقراطية؟ إذا كان يدافع فعلا عن الديمقراطية وعبّر عن هذه الدوافع من خلاله سلوكه وممارساته الواقعية الميدانية، فسأقول هذا هو الاتجاه الذي يؤدي لبناء الدولة السودانية. لكني لا أسلم بادعاء أن الدعم السريع يحارب من أجل الديمقراطية إلا إن ظهر ذلك في سلوكهم، وليس مجرد دعواهم، فهل سلوكهم ديمقراطي؟ هل يحترمون كرامة المواطن السوداني وحقوقه وعرضه وماله في ظروف الحرب الدائرة؟ إذا صح ذلك في الواقع، فهم فعلا يحاربون من أجل الديمقراطية. والصعوبة العملية في الإجابة على هذا السؤال هي في كيفية التحري من صدق الوقائع المذكورة في الروايات على جانبي القضية.

(*) ماذا عن مستقبل حقوق الإنسان في السودان؟

أعتقد أن مستقبل حقوق الإنسان في السودان هو مستقبل زاهر ومبشر بكل خير. طالما الإنسان موجود ومُعامل كإنسان، فحقوق الإنسان موجودة، وإذا لم يكن الحال كذلك، فهذه الحقوق غائبة، مهما قالت المواثيق الدولية والدساتير والقوانين. أنا متخصص فنيًا في مجال حقوق الإنسان، وناشطًا في هذا المجال منذ أربعين عامًا، منذ أن كنت طالبًا في جامعة الخرطوم أواخر الستينيات. حقوق الإنسان عندي في النظرية والتطبيق هي استحقاقه من حيث هو إنسان بغض النظر عن الدين والعنصر والجنس وجميع الفوارق الأخرى. هذه الحقوق، لا تُفرض خارجيًا من المواثيق الدولية وإنما تنبع من سلوكنا وممارساتنا في أنفسنا وفي مجتمعاتنا. القاعدة الذهبية عندي تقول: “كما تدين تدان” و “عامل أخيك بما تحب أن تُعامل به”. وهي تعني أن تَعامل أختك، أو بنتك، أو زوجتك، أو جارك القريب والبعيد، كما تحب أن تُعامل. إذا اتخذت هذه القاعدة الذهبية المرجعية، فأنت في صف حقوق الإنسان، وإذا لم تعمل بها فأنت في عداء معها مهما كانت ألقابك أو وظائفك أو مؤسساتك. وأعتقد أن تجربة الحرب الأهلية الأليمة في السودان، والمعاناة الطويلة، وتكرار الأخطاء الفظيعة والكبيرة منذ أكتوبر 1964 إلى أبريل 1985 إلى ديسمبر 2018، يجب أن تورثنا حكمة أن نعرف الإنسان وقيمته من حيث هو إنسان وندافع عن حقوقه على هذا المستوى. إن الانتماء للمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، وتأسيس الأجهزة القضائية والإدارية، كلها قد تكون مفيدة وربما ضرورية في بعض الأحيان كوسائل لكنها لا تطابق مفهوم حقوق الإنسان نفسه.

حقوق الإنسان هي: عامل الناس كما تحب أن تُعامل، بهذه البساطة. وفقًا لهذا المعنى، نعم، حقوق الإنسان لديها مستقبل في السودان، وهو مستقبل يرتبط بالسلوك الديمقراطي والأخلاقي للأفراد، ثم يمكن التعبير عن ذلك في دساتير وقوانين ومحاكم ومواثيق دولية، وكل ذلك هي مجرد وسائل لتنفيذ حقوق الإنسان كقاعدة أساسية في السلوك اليومي المباشر بين الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار