السودان

البروفيسور عبد الله أحمد النعيم لـ(راينو): الاستنفار الشعبي المزعوم هو آخر حيل الإسلاميين للاحتفاظ بالسلطة

حوار: راينو (1-2)

ندد د. عبد الله احمد النعيم أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان بالجامعات الامريكية بتوصيف الدعم السريع بالـ “أجانب” والـ”مستوطنين الجدد”، وقال في حوار لـ”راينو”:(هي خطابات ظلت ترددها الصفوة المتسلطة في الوسط لتهميش أو زيادة تهميش قطاعات واسعة من السودانيين في مختلف أنحاء القطر وهي خطابات أرفضها ولا أتفق معها)، وتابع:(كل شخص نشأ وتربى ويعيش حاليا ضمن الحدود السودانية الجغرافية السياسية هو مواطن سوداني يستحق كامل حقوق المواطنة، وعليه كل واجباتها. فهذه الحدود أنشأها الاستعمار، وهناك قبائل مشتركة في كل الحدود السودانية، القبائل في دارفور على سبيل المثال، تتصل بتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، كما أن هناك قبائل سودانية لها امتدادات في أثيوبيا وإرتريا ومصر وغيرها.

بدأت الأخطاء حينما سخرت الصفوة المتعلمة نفسها لخدمة الأحزاب الطائفية بعد الاستقلال

(*) منذ بداية الفترة الانتقالية، وصولاً لحرب الخامس عشر من أبريل، برأيك ما هي الأخطاء الدستورية والقانونية التي أوصلت الحال إلى ما هو عليه في الحاضر؟

أولاً، بدأت الأخطاء منذ حركة الاستقلال السابقة لخروج الاستعمار البريطاني المصري من السودان. وذلك حينما سخرت الصفوة المتعلمة نفسها لخدمة الأحزاب الطائفية، خصوصا “الحزب الوطني الاتحادي” و”حزب الأمة”، بدلا من أن تسعى إلى خلق قواعد سياسية واعية على مستوى القطر كله. هذا هو الخطأ الأساسي الذي أوصلنا للحالة التي نحن عليها اليوم، وما نزال في الدائرة نفسها، حتى بعد “انتفاضة” أو “مشروع ثورة” ديسمبر كما اسميها، وهي مشروع ثورة لأنها لم تنجز مهامها الأساسية حتى الآن. ولكنها برأيي في سبيل أن تنجزها.

(*) إذاً الأزمة في الصفوة؟

ما أريد تأكيده، هو أن الحديث عن الدستور والقانون ليس حديث صفوة، أنا قانوني، درستُ القانون منذ عشرات السنين. لكني لا أعتقد إني أمتلك الإجابة، ولا أي متعلم قانوني أو متخصص في أي مجال فني آخر يمتلكها. الإجابة في يد “المواطن السوداني” من حيث هو سوداني في كل مكان من السودان. فنحن، حتى بعد انتفاضة ديسمبر ما زلنا في ظل صفوة متعلمة حزبية كانت أو نقابية أو مهنية ظلت تكرر التفاوض مع قيادات الجيش من أجل الوصول إلى حل لمشاكل السودان، وهو تفاوض رأسي متعلق بالسلطة، ولا يضع اعتبارًا لمصالح المواطنين. فعلنا ذلك تلاث مرات، في أكتوبر وأبريل وديسمبر، والنتيجة هي الفشل. والسبب فيما آل إليه الحاضر هو أن صفوتنا المستنيرة الواعية غير متجهة لتنمية الديمقراطية الدستورية وسيادة حكم القانون أفقيًّا في قلوب وعقول السودانيين. لذلك فالحديث ليس عن أخطاء دستورية وقانونية، إذ لا يوجد دستور أو قانون من غير المواطن بالمعنى الحديث للكلمة. ولا يوجد مواطن دون الوعي والالتزام بالعمل الفوري والمباشر الذي يضعه في علاقة إيجابية مع المواطن الآخر.

ما يحدث عملية هدم لدولة تآكلت وفشلت وليس مشروعاً لانفصال جديد والحرب نقطة تحول جوهرية في تاريخ بناء الدولة السودانية

(*) تشهد سلطات الدولة تقلصًا واسعًا منذ بداية هذه الحرب، إذ لم تعد موجودة بشكلها الخدمي والأمني في دارفور وأجزاء من كردفان والجزيرة والخرطوم، هل سنشهد انفصالًا جديدًا، أم هي مجرد عملية لهدم دولة تآكلت وفشلت، وهناك إمكانية لبنائها على أسس جديدة؟

الإجابة عندي هي الجزء الثاني، بأنها مجرد عملية هدم دولة تآكلت وفشلت وليس مشروع لانفصال جديد. والانفصال لا يحل مشكلة، حاليا نحن حزينون لما يجري في جنوب السودان الذي أصبح دولة مستقلة بعد معاناة طويلة، اضطر الإخوة والأخوات في الجنوب اضطرار جعلهم يصرون على الانفصال. لكن الانفصال لم يحل مشكلة للجنوب كما نرى الآن، ولن يحل مشكلة للشمال. ثم السؤال هو انفصال عمن؟ ولماذا؟ فللانفصال نفسه شروط منها أن يصل كل مواطن ومواطنة إلى منهجية التزام قواعد في السلوك والممارسة والعمل والإدارة والأمان والأداء العام الذي يضمن الكرامة والحرية والصحة لكل مواطن. وبالتالي أي كان حجم الدولة، أو التكوينات والمكونات المختلفة لها كإقليم قطري، فالمسألة هي شروط ومواصفات الحكم والإدارة والأمانة في العمل العام. وهي شروط لا يستوفيها أي إقليم في السودان في الفترة الحالية، لكنها ممكنة ولازمة التحقيق في كل إقليم، سواء أن ظل في إطار الوحدة القومية، أم خرج عنها. لذلك، أفتكر أن انفصال دارفور أو كردفان أو الوسط أو الشمال أو الشرق لن يغير أي شيء. سيواجه كل إقليم المشكلة أو التحدي نفسه. لذلك سنكون أقوى في الاتحاد كقطر أكبر بإمكانياتنا الاقتصادية والأمنية والبشرية، شرط أن نسخرها لخدمة جميع المواطنين السودانيين من حيث هم سودانيون في كل مكان. والحرب برأيي هي نقطة تحول جوهرية، وهي هدم لدولة تآكلت وفشلت. وهناك إمكانية لبنائها على أسس جديدة، وهي إمكانية تعتمد علينا كأفراد قبل أن نكون جماعات ضمن أي تشكيل كلي.

(*) إلى أي مدى تشكل هذه الحرب نقطة تحول جوهرية في تاريخ بناء الدولة السودانية، ومعالجة كافة القضايا؟

أعتقد أن هذه الحرب رغم المعاناة والعنف والألم الذي سببته لملايين السودانيين، إلا أنها في الحقيقة تعد نقطة تحول جوهرية في تاريخ بناء الدولة السودانية. ليس الدولة كنظام فحسب، وإنما بناء السودان نفسه. وأنا هنا أتحدث عن فكرة السودان وإعادة تعريفه، إذا لم تنبهنا الحرب إلى فعل ذلك، فليس هناك أي إمكانية للحديث عن دولة من الأساس. لا بد من أن يكون السودان لكل السودانيين دون تمييز بين النساء والرجال والمسلمين وغير المسلمين، وبين ما يسمون بالعرب وما يسمون بالأفارقة، فإذا تحقق ذلك في كل أنحاء القطر فلا داعي للانفصال، وإذا لم يتحقق في أي إقليم فلا جدوى من انفصال ذلك الإقليم.

النقطة الأساسية هي أن المواطنة يجب أن تكون لكل سوداني من حيث هو سوداني. إذا بدأنا من هذه النقطة، فالحرب رغم عنفها وقسوتها وفظاعتها، هي في الحقيقة نقطة تحول جوهرية، لأنها أوقفت العبث الذي كانت تمارسه الصفوة في أواسط السودان، والتي ظلت تتسلط على باقي السودانيين في كل مكان، أحيانًا باسم “الإسلام” وأحيانًا باسم “التقدمية” أو أي زعم آخر يمنحها مشروعية السلطة. السلطة للسوداني من حيث هو سوداني. بعد إثبات ذلك يمكن أن نذهب لشروط الدولة ومواصفاتها. وأعتقد أن مسألة الحروب والعنف الذي يحدث في التاريخ ليس عبثًا وإنما لحكمة كبرى كما تقول الآية 251 من سورة البقرة: “فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.” فإذا وعينا هذه الحكمة سيكفينا الله مشقة تكرار التجربة، وإذا لم نع سنكرر التجربة. وطالما دخلنا في الحرب فلننتفع منها، ثم نسأل الله أن يخرجنا منها بأقل معاناة ومشقة.

السودانيون يعانون من عنصرية عميقة الجذور والتسلط والعنجهية

(*) ثمة تحولات اجتماعية أفرزتها الحرب، إذ تصاعدت خطابات موجهة من الشمال للغرب والعكس. وهي تحولات أفقية قد تهدد إمكانية التعايش المشترك مستقبلا. ما أثر ما يسمى بـ”المقاومة الشعبية” التي أعلنها الجيش في حدوث الفرز الاجتماعي والسياسي؟

أولاً، إن معنى وتداعيات تصاعد الخطابات الموجهة من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، وما إلى ذلك، تعتمد على غايات ووسائل تلك الخطابات. فإذا كانت وسائلها وغاياتها تهدف لتأسيس وتدعيم التعايش السلمي، فهي ضرورة قومية لازمة وعاجلة من أجل بناء السودان ككيان موحد، وضرورية للاستقرار السياسي والأمن العام، والتنمية، وتعميم الخدمات اللازمة للحياة الإنسانية الكريمة. فنحن السودانيون في أشد الحاجة لأن نواجه أنفسنا بصدق وأمانة بحقيقة المشاكل التي انتهت بنا إلى الحرب الأهلية الشاملة الراهنة، لأننا جميعًا نعاني من العنصرية عميقة الجذور، ومن التسلط والعنجهية، من عموم الرجال على جميع النساء، وبين القبائل والجماعات، وفي أوساط كل قبيلة وجماعة، وما يتبع ذلك من أنانية وتفرد بالسلطة، وعدم تحمل المسؤوليات الأخرى لبناء الوطن. فإذا كانت الخطابات تعالج هذه القضايا وتداعياتها، فهي ضرورة قومية لازمة وعاجلة من أجل المقاومة السلمية المتحضرة للظلم والقهر والفساد.

أما إذا كانت غايات ووسائل هذه الخطابات تهدف لتأسيس وتدعيم ما يسمى ب “المقاومة الشعبية المسلحة” بمعنى الاستنفار القائم على العنف المسلح كوسائل للتغيير السياسي الاجتماعي، فهذه الفتنة الهوجاء التي حذرنا القرآن الكريم منها: “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب”، والعياذ بالله، وهي الدرك الأسفل الذي تنتهي إليه تجربة السودان منذ ما يسمى ب “حوادث أول مارس” 1955، عشية الاستقلال. فمن أجل الحصول على السلطة والاحتفاظ بها، ظلت مختلف القيادات السياسية والعسكرية في السودان تعمل على استغلال جميع الوسائل لاستمرار استغلالها وتسلطها على الناس، وتهربها من المسؤولية. وفي خطابات 2023- 2024، فإن ما يسمى ب “الاستنفار الشعبي” المزعوم هو آخر الوسائل الخبيثة التي يستغلها نظام الإنقاذ المتهالك للبقاء والاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن. وهذا يعني هنا التضحية بحياة وأمن عامة المواطنين العُزل الأبرياء، وعلى حساب وجود السودان نفسه ككيان سياسي موحد. وهذه فتنة كبيرة، مقصود منها الحرص على السلطة والاحتفاظ بها لفئة سياسية ضئيلة، وليس لكافة السودانيين، وليس للسودان أي مصلحة في ذلك على الإطلاق. فعندما تتفتت المقدرات العسكرية والأمنية، وينتشر السلاح في أيدي نتن تختارهم سدنة نظام الإنقاذ، تفقد الدولة أساس مشروعيتها ومقدرتها على أداء وظيفتها الجوهرية في حفظ الأمن العام وصيانة السيادة والوحدة القومية.

الاستنفار الشعبي المزعوم هو آخر الوسائل الخبيثة لنظام الإنقاذ المتهالك من أجل الاحتفاظ بالسلطة

(*) هل تشير هنا للدعم السريع؟

إذا كانت “قوات الدعم السريع” هي فئة مارقة ومهددة للأمن العام والوحدة القومية، كما تزعم قيادة نظام الإنقاذ، رغم أنها قوات مُنشئة بموجب قانون قومي رسمي تحت نظام الإنقاذ نفسه، وخاضعة لهيكل قيادي في إطار القوات المسلحة النظامية، فماذا سيحدث من أفراد وفئات مسلحة بصورة عشوائية، وبدون أي قدر من القيادة المعروفة والمسؤولة قانونيًّا عما تفعل بذلك السلاح: على من تستخدمه وبموجب أي ضوابط ضد سوء الاستغلال لأغراض شخصية أو حزبية ضيقة؟ إن التاريخ الإنساني عامة، والأفريقي منذ الاستقلال من الاستعمار بصورة خاصة، حافل بالنماذج الصارخة لمثل هذا التسليح العشوائي لأغراض سياسية وأيديولوجية ضيقة، كما يحدث الآن من بعض قيادات نظام الإنقاذ. وتتفاوت النماذج الحديثة والمعاصرة لهذه الكوارث بين الإبادة الاثنية والسياسية كما في حدث رواند عام 1984، إلى الحرب الأهلية الشاملة في الصومال وليبريا في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد وعشرين، وصولا إلى ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي وحتى الآن، فأي هوس ديني وجنون بالسلطة يدفع قيادات الإنقاذ إلى الوهم بأنهم مستثنون من سنة الله التي سن الناس عليها منذ بدء الخليقة؟

(*) في بداية هذه الحرب شهدنا حملات عنيفة إزاء جنود الدعم السريع، وتجاوزتهم إلى مكونات اجتماعية دارفورية بالخصوص، تركزت بشكل أساسي على وصف هؤلاء جميعا ب “الأجانب” و “المستوطنين الجدد”، وهي خطابات رددها بعض مناصري السودان الجديد قبل الحرب. هل ساهم ذلك في منح شرعية سياسية وأخلاقية للدعم السريع في هذه الحرب باعتبارها حرب وجود بالنسبة له وللمكونات التي ناصرته؟

من الصعب التنبؤ بما سيحدث للدعم السريع كمكون سياسي وهيكل وكيان مستقل، ولكن الحديث عن أن هؤلاء “أجانب” و”مستوطنين جدد” هي خطابات ظلت ترددها الصفوة المتسلطة في الوسط لتهميش أو زيادة تهميش قطاعات واسعة من السودانيين في مختلف أنحاء القطر. وهي خطابات أرفضها ولا أتفق معها. فكل شخص نشأ وتربى ويعيش حاليا ضمن الحدود السودانية الجغرافية السياسية هو مواطن سوداني يستحق كامل حقوق المواطنة، وعليه كل واجباتها. فهذه الحدود أنشأها الاستعمار، وهناك قبائل مشتركة في كل الحدود السودانية، القبائل في دارفور على سبيل المثال، تتصل بتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، كما أن هناك قبائل سودانية لها امتدادات في أثيوبيا وإرتريا ومصر وغيرها. هذه الامتدادات للقبائل لا يجب أن تجعلنا ننزع حق المواطنة عنها أو نصف أفرادها بأنهم أجانب ومستوطنون جدد. المسألة تتعلق بالمواطنة فقط، فإذا كنت مواطنًا ضمن الحدود الجغرافية السياسية الحالية، فأنت سوداني لك كامل حقوق المواطنة وواجباتها.

فيما يتعلق بالمشروعية لحركة الدعم السريع، إذا أصبح الدعم السريع قوة مستقلة قائمة على برنامج سياسي انتخابي وتمارس الديمقراطية القاعدية الشعبية المشروعة والقانونية، فلتكن لهم المشروعية، فالمشروعية في جانب أساسي منها ترتبط بالديمقراطية. ولكن حين تهمش الدولة جزءً من الشعب، وتنكر عليه حتى حق المقاومة، أي حتى حق مناهضة الظلم والقهر، في هذه الحالة ستكون هناك “مشروعية المقاومة”. مناقشة جذور الأزمة في السودان يجب ألا تتعلق بالتصنيف الذي تضعه النخبة أو الصفوة لمن هو “السوداني” ومن هو “الأجنبي”، وإنما يجب أن نتجه لتأسيس المواطنة السودانية كحق دستوري وقانوني مشروع وقائم وحقيقي. يجب أن نذهب نحو تأسيس المواطنة وواجباتها وحقوقها من حيث هي مواطنة بدل من الاستمرار في تهميش الناس وحرمانهم من إنسانية حقهم في مقاومة الظلم الواقع عليهم، أو نزع المواطنة عنهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار